عهد جديد من “الاحترام “الافتراضي

د. حسن أشكناني.
أستاذ الأنثروبولوجيا الأثرية
كلية العلوم الاجتماعية – جامعة الكويت
عضو وزميل المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية في شبه الجزيرة العربية

2020/04/30

إلى زملائي وإلى جمهور المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية في شبه الجزيرة العربية، أكتب إليكم هنا لأشارككم خبراتي الشخصية المتعلقة بجائحة فايروس كورونا وتقديم الدعم والتشجيع. نظرًا لأننا نواجه جميعًا وقتًا فريدًا وغير مسبوق لا يمكن إنكاره، فيمكننا أن نكون داعمين لبعضنا البعض وأن نكون منتجين من خلال طرق الاتصال الحديثة.

كان يوم 9 مارس يوم ممطر وغائم. لم يتسبب الطقس العاصف في تشتيت الانتباه عن جمال باريس ولا عن نيتي حضور المؤتمر والتركيز على بعض الأنشطة الأكاديمية. كنت في باريس لحضور مؤتمر جامعة Science Po حول الأنثروبولوجيا والحرب. كنت أنوي زيارة متحف اللوفر خلال فترة الراحة، ولكن اندهشت، حين رأيت سلسلة طويلة من الزوار ينتظرون دخول المتحف. قيل لي أن موظفي المتحف يرفضون استقبال الزوار بسبب أزمة فايروس كورونا والتي ستعلن منظمة الصحة العالمية في 11 مارس أنه جائحة. لم أر أي شخص يرتدي القناع والقفازات، بما في ذلك الأشخاص الذين ينتظرون في الطابور، ولا في باريس أثناء الجولة إلى المتاجر أو في المؤتمر. لم أكن متأكداً مما إذا كانت هذه الأزمة مشكلة عالمية أو إقليمية. إلى جانب الحادث الذي وقع في متحف اللوفر، لم أر أي سلوك، خلال الأيام التي قضيتها هناك، من أحد سكان باريس أو زائر الذي يشير إلى مخاوف صحية عامة.

حسناً، هناك شيئان آخران كان عليّ القيام بهما خلال زيارتي إلى باريس. أولاً، كان عليّ تقديم الشرائح الرقيقة للفخاريات الأثرية إلى مختبر أكاديمي لدراسة المعادن. كانت الأواني الفخارية التي يبلغ عمرها 4000 عام من مواقع أثرية في الخليج العربي، وهي مهمة بشكل طبيعي بالنسبة لي وللعالم أجمع. كان عليّ أيضًا أن أذهب إلى استوديو لتحويل بكرات عمرها 70 عامًا إلى نسخة عالية الدقة إلى جانب 300 شريحة من صور الحفريات الأولى التي أجريت في دولة الكويت. يعد تحويل مواد المطبوعات إلى صيغة رقمية للحفاظ على قواعد البيانات التاريخية أمرًا شاقًا، ولكنه عمل روتيني ضروري.

نعم، قامت الحكومة الكويتية بتعليق المدارس في 15 مارس وأجبرت الكويتيين على دخول « الحجر المؤسسي ». تم تطبيق فحص الحجر الصحي على الركاب القادمين من إيطاليا وإيران والعراق والصين وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية. في ذلك اليوم من 9 مارس، كان العدد الإجمالي للمصابين في الكويت 58 وكان عليك تقليب الصحيفة اليومية إلى الصفحة 11 للعثور على أي أخبار تتعلق بفيروس كورونا ! عندما هبطت طائرة العودة إلى الكويت، دخلت مباشرة إلى غرفة « استجابة التخفيف COVID19 “. كان هناك أقل من 40 راكباً في المطار بأكمله ! تم إغلاق جميع المحلات التجارية، واضطررنا إلى اتباع قائمة الانتظار لإجراء الاختبار ! في اليوم التالي تلقيت مكالمة لزيارة مستشفى جابر لعمل المسحة، « أصيب أحد زملائك بالعدوى، يجب أن تكون الحجر الصحي المنزلي لمدة 14 يومًا »، أخبرني الدكتور ‘س.’

وتماشياً مع الإجراءات العالمية للوقاية من حالات المخالطة مع المصابين، شملت التعليمات البقاء في غرفة منعزلة؛ استخدام الصحون والاكواب البلاستيكية للاستعمال مرة واحدة، وعلبة قفازات، وأقنعة وقناني المياه المعدنية؛ وكذلك لا للمس الآخرين – التباعد الجسدي، نعم كنت قلقاً وحذر. في آخر يوم لي من الحجر الصحي المنزلي، كان عليّ أن أعمل مسحة مختبرية مرة أخرى – وكانت النتيجة سلبية. فكرت للحظة، « أنا سعيد الآن، لست خائفاً، ولكن أكثر حذراً ». في نفس اليوم أعلنت الحكومة أن الكويت ستكون تحت الحظر التجوال الجزئي لمدة أسبوعين !

لقد أدركت أن أزمة COVID-19 هذه أحدثت تغييرًا كبيرًا في حياتنا مع ظهور توصيات « التباعد الاجتماعي » (أفضّله بدلاً من التباعد الجسدي). على الرغم من أنني لم أتمكن من التفاعل مع كل شخص اعتدت على رؤيته، إلا أنني اعتقدت أنه لا يزال بإمكاني الذهاب إلى مختبري ومتحف الأنثروبولوجيا في جامعة الكويت. ربما يمكنني أخذ المواد الخاصة بي وبعض الكتب والتأكد من أن المكان مغلق. قال محمد، حارس الحرم الجامعي، « حسن، الحرم الجامعي مغلق .. لا يمكنك الوصول إلى أي مكتب أو أي مرافق ». مع الزيادة في عدد الإصابات الجديدة وحالة الوفيات المسجلة الأولى، كانت الحكومة تعزّز التباعد الاجتماعي الصارم وتبنّت المزيد من إجراءات الإغلاق للحفاظ على سلامة السكان.

سلامة الناس والعالم لها أهمية قصوى، وعلى الرغم من أن إجراءات الإغلاق والأزمة الصحية ستكون مؤلمة للاقتصاد، فإن حياتنا في على المحك. لا مجال للمقارنة ! لذا، دعنا نحاول إنجاز العمل في المنزل، أليس كذلك؟ لسوء الحظ، لاتزال المناقشات جارية بشأن استخدام التعليم الإلكتروني في جامعة الكويت. إذا كان مسموحًا به من خلال الإجراءات التشريعية، فهناك جانب التجهيز الفني الذي يبدو أنه تم تأجيله حتى أغسطس ! المختبرات والمرافق مقفلة ! حتى المواد التي قدمتها للتحليل في باريس كانت معلقة ولم تتم معالجتها. كان الناس هناك (على الأقل أولئك الذين عملت معهم) يقيمون في المنزل ويطبقون الحجر المنزلي والحجر الذاتي بالكامل بعد الزيادة الكبيرة في إصابة فايروس كورونا المستجد في باريس.

ما هي التحديات التي سيواجهها الأكاديميون خلال هذا الوباء؟ أنا شخصياً لدي الكثير من الأسئلة والأفكار العالقة في ذهني فيما يتعلق بكيفية متابعة أمور أبحاثي. هل نتوقع أن يكون لدينا، بحلول الشهرين المقبلين، أداة محمولة من جهاز ICP-MS لتحليل العينات الأثرية بدلاً من إرسال العينة إلى مختبرات أخرى؟ هل من الممكن أن يكون هناك جهاز متصل بجهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي في المنزل ويقرأ المكونات المعدنية لعينات الفخار بدلاً من إرسال الشرائح إلى باريس؟ هل أتوقع أن موظفو المختبر في تكساس قادرين على قراءة التحليل واستخلاص النتائج للعينات عن بعد من أماكنهم بينما أنا متواجد في الكويت؟ يمكنني أن أتخيل بوجود جهاز « الليزر » متصل بشاشة الكمبيوتر في مكتبي والحصول على نتائج التركيبة الكيميائية في نفس الوقت أثناء التحدث إلى صديقي ديفيد الذي يقوم بإجراء الاختبار ! الآن، سيكون الوقت المناسب لتجهيز مختبر « عن بعد » لتحليل بقايا العظام البشرية، بدلاً من التعامل مع إدارة الهجرة والحدود الأمريكية وما نواجهه من عراقيل شأن استيراد بقايا حساسة إلى البلاد ! لا أعتقد أن تلك الأمور مستحيلة خاصة أن الأمر استغرق 81 عامًا لتعديل جهاز الأشعة السينية الكبير إلى محمول بالكامل ! تخيل أن جهاز الأشعة السينية المحمول الدقيق والفعّال، أول أداة كاشف من نوعSDD ، استخدمه الزملاء في الأوساط الأكاديمية كان في عام 2008 ! لا يحتاج الى المزيد من التدمير وأخذ عينة، أو محلول كيميائي بعد ذوبان القطعة الأثرية، وغيرها من القيود، الآن ما عليك سوى حمل آلة بطول 30 سم والحصول على النتيجة في ثوانٍ ! سوف يتغير التعاون البحثي في طبيعته وشخصيته.

سيستمر هذا التغيير، طالما أن جائحة فايروس كورونا يؤثر على حياتنا. أخبرني أحد أفراد عائلتي أنهم لم يعتقدوا أبدًا أن الذهاب إلى السوق المركزي في الكويت تحت أي ظرف أو أزمة يجب أن يكون من خلال التسجيل وأخذ موعد عبر الإنترنت ! نعم، مسموح لك بزيارة واحدة فقط في الأسبوع لمدة 30 دقيقة كحد أقصى للتسوق في السوبر ماركت !

أعلم أن طريقة العمل « عن بعد » هو آت وقريب جداً، لكن يعاودني إحساس القلق في كيفية إدارة مسؤولياتي العملية في بيئة منزلية. وأيضًا، كيف يؤدي المرء الواجبات الإدارية، والالتزامات البحثية، والحفاظ على العلاقات الأسرية كلها في نفس الغرفة؟ أم هو مكتب العمل؟ ربما سوف أسميها مكتبتي؟ مع هذه الأزمة، إنه من الغرابة جداً أن تكون هناك « ديوانية » أو « تجمع ليلي » افتراضي- ديوانية افتراضية – لم اعتاد على سماعها او تجربتها قبل هذه الأزمة ! ويبدو الأمر مزعجاً أكثر في هذه الأزمة وسماعنا لأخبار من فقدناهم من الأهل والأصدقاء هو رفض إقامة مراسيم دفن الجنازة بشكله التقليدي. مع هذه الأزمة لا يمكننا مشاهدة اللحظات الأخيرة لوداع أحبتنا من هذه الدنيا. هل يمكنك دعوة أقاربك وأصدقائك لمائدة الإفطار الرمضاني؟ في هذه المرحلة، ليس لدي أي فكرة كيف سيكون شكل مجتمعنا بعد هذه « الحرب »، التي قد تستمر لأشهر أو سنة أخرى. كيف يمكنني الذهاب إلى الفصل الدراسي وتعريف مفهوم « الثقافة » و « التفاعل الاجتماعي » للطلاب الذين يستخدمون ظاهرة « الديوانية » كمثال لشرح تلك المفاهيم؟ يتم تعريف الديوانية على أنها تجمع من الأفراد يوجد فيه أدوار اجتماعية واضحة تلعب دوراً ضمن مفهوم الطبقية والتسلسل والتدرج الاجتماعي. الخبر السار هو انسياق وسهولة الثقافة الكويتية لدرجة أنه يتم ممارسة الديوانية كتجمّع افتراضي، ولكن الجزء المثير للاهتمام هو كيف سنعبّر عن « احترامنا » لمن هم على منصة افتراضية – كيف يمكن للعالم الافتراضي أن ينقل « قيمة الاحترام » التي تظهر بأبها معانيها من خلال الحركة والشعور والممارسة في الديوانية ولكنها ليست ديوانية واقعية !

Voir en ligne : Pour plus de billets sur le COVID-19 dans la péninsule Arabique